2017-12-20

اختطاف قادة الثورة الجزائرية 22 أكتوبر 1956

التسميات

اختطاف قادة الثورة الجزائرية 22 أكتوبر 1956


بعد مرور عامين على اندلاع الكفاح التحرري، تدعّمت الثورة الجزائرية  بعوامل انتصار جديدة مكّنتها من الصمود في وجه المحتل. وبذلك أدركت السلطات الاستعمارية بأن صمود الشعب الجزائري يكمن في قوة قيادته الثورية، التي أصبحت بعد انعقاد مؤتمر الصومام سيّدة الموقف في اتخاذ القرارات الثورية بصفتها الممثلة الشرعية لمطالبه المتمثلة في السيادة الوطنية.  

أما على الصعيد الخارجي، فلقد نجح ممثلو جبهة التحرير الوطني في الخارج في استقطاب الرأي العام الدولي حول عدالة القضية الجزائرية ومشروعية كفاح شعبها، ولقد بُذلت في هذا المسعى جهود كبيرة لإسماع صوت الجزائر المكافحة، وكلّلت هذه المساعي بالانتصارات على مختلف الأصعدة العسكرية، السياسية، التنظيمية، الإدارية والدبلوماسية، ومن هنا أدركت السلطات الاستعمارية خطورة الوضع أمام فشل مناوراتها الإصلاحية، وعملياتها العسكرية عبر التراب الوطني، فلجأت إلى تدبير مكيدة اختطاف القادة الثوريين وهم أعضاء في المكتب الخارجي لجبهة التحرير الوطني، وفرنسا أخطأت التقدير، إذ ظنّت بهذا الاختطاف ستقطع الرأس المدبّر للانتفاضة، لكا ما حدث هو العكس.

  • دعوة جبهة التحرير الوطني للمشاركة في ندوة تونس المغاربية:


في نهاية سبتمبر من عام 1956، وبعد عدة اتصالات وُجّهت الدعوة لجبهة التحرير الوطني للمشاركة في الندوة المغاربية المقرّر عقدها في تونس يوم 22 أكتوبر 1956 لتحقيق الأهداف التالية:

– تأكيد البعد المغاربي للثورة الجزائرية والسعي مع مختلف الأطراف لتحقيق هذه الوحدة، وإبداء التضامن الحقيقي، وتخليص أقطار المغرب العربي من الهيمنة الاستعمارية.

– توضيح رؤية جبهة التحرير الوطني للرأي العام الدولي ولفرنسا بوحدة قضايا الشمال الافريقي، وارتباط استقرار المنطقة بإيجاد حل للمشكلة الجزائرية.

– تثمين المساعي التي باشرها الوفد الخارجي للثورة من أجل تحسين وضعية الثورة في أية  مفاوضات محتملة، خاصة فيما يتعلق باعتراف الأطراف المغاربية بتمثيل الجبهة لكفاح الشعب الجزائري.

تشكّل الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني من: محمد خيضر، حسين آيت أحمد، أحمد بن بلة، محمد بوضياف، وقد رافقهم في هذه المهمة المناضل مصطفى الأشرف، وكان من المتوقع أن تُجرى المحادثات مع الرئيس “الحبيب بورقيبة” والسلطان المغربي “محمد الخامس” لبحث القضية الجزائرية وتقييم آفاق السلام في الجزائر وهذا على ضوء اللقاءات التي قام بها مندوبو جبهة التحرير الوطني مع الحكومة الفرنسية في جويلية وسبتمبر من سنة 1956 في كل من بلغراد وروما. كما كان من المتوقع التطرق إلى قضية “اتحاد شمالي افريقيا المحرّر كليا”، مع تحديد طبيعة علاقات هذه الدول مع فرنسا.

  • التخطيط لعملية الاختطاف:


بعدما علمت السلطات الاستعمارية بعزم جبهة التحرير الوطني على إرسال وفد يمثلها قصد المشاركة في “مؤتمر السلام” بتونس، بدأ التخطيط لعملية اختطاف قادة الثورة، حيث أبدت فرنسا رغبتها في عقد اجتماع بين السلطان المغربي “محمد الخامس” والرئيس التونسي “الحبيب بورقيبة”، وممثلي جبهة التحرير الوطني، على أن تنظر في مطالب الجزائريين بعد هذا اللقاء، لكنه تبيّن فيما بعد أن الموافقة الفرنسية على الوساطة المغربية التونسية، لم تكن سوى عملية مُدبّرة تدبيرا محكما، الهدف منها استدراج القادة نحو المغرب للمفاوضات لتسهل عملية إلقاء القبض عليهم. وتسهيلا للمهمة، تجدر الإشارة إلى أن المفاوضين الفرنسيين قبلوا تقديم تسهيلات لتنقّل مندوبي جبهة التحرير الوطني، كما أظهرت مستجدات القضية وتطورها بأن نجاح عملية القرصنة تقنيا راجع للتنسيق المحكم والتام بين مختلف الجهات الرسمية الفرنسية من أجهزة المخابرات الفرنسية في العاصمة المغربية وقيادة الجيش الفرنسي ووزارة الدفاع التي كانت تتابع تحركات الوفد الجزائري المشارك في الندوة.

  • قادة  الثورة في ضيافة المغرب:


قبل التوجّه إلى تونس لحضور “ملتقى السلام” جرت مراسيم استقبال قادة الثورة في الناظور بصفتهم مدعوين رسميين للسلطان، من قبل ولي العهد مولاي الحسن (الحسن الثاني)، ثم خصّهم محمد الخامس باستقبال حار وبشكل احتفالي بالرباط يومي 20 و 21 أكتوبر 1956، ولقد أثار هذا الاستقبال الخاص بالمغرب غضب الحكومة الفرنسية التي وجّهت رسالة احتجاج وأقدمت على تعليق مساعدتها للمغرب مؤقتا.

وتجدر الإشارة أنه في 22 أكتوبر 1956 كان من المقرّر أن يستقل مندوبو جبهة التحرير الوطني نفس الطائرة مع السلطان المغربي وحاشيته، لكنهم ركبوا طائرة أخرى. وبعد هذا التغيير الحاصل، وجد الجنرال فرندون Frandon  رئيس المنطقة الجوية الخامسة التي تغطي الجزائر مناسبة لتنفيذ مؤامرة الاختطاف، فاتصل هذا الأخير باللواء لوريو Lorillot  القائد الأعلى في الجزائر، الذي استشار بدوره ماكس لوجون أمين سر دولة في القوات المسلّحة وهو الذي أعطى الأوامر بدون تردّد باعتراض الطائرة.

  • مجريات عملية القرصنة الجوية وتنفيذها:


في حدود الساعة منتصف النهار من يوم 22 أكتوبر 1956 أقلعت الطائرة DC3 المستهدفة التابعة لشركة الطيران المغربي من مطار “الرباط سالا” وكان على متنها إضافة إلى قادة الثورة عشرة صحافيين من بينهم طوم برادي من نيويورك تايمز وإيف دو شامب من نوفيل أبسرفاتور. وكان الخط المحدّد لطيران الطائرة هو الرباط – بالما- دي مايوركا، وهو خط بعيد عن المجال الجوي الخاضع لرقابة السلطات الفرنسية، ولا يمر من منطقة الاستعلامات المراقبة بأجهزة رادار الجزائر. وكان من المقرّر أن تتحول الطائرة من قطاعات الإصغاء في المملكة المغربية للدخول في قطاع اشبيليا قبل النزول في بالما، غير أن مراكز مدينتي الجزائر ووهران أصغت إلى تردّد قطاع اشبيليا، حينها طُلب من قائد الطائرة الانحراف عن خط سيره والنزول في وهران، لكن هذا الأخير رفض الامتثال للأوامر لأن مُخطط طيرانه يحتّم عليه الهبوط في بالما.

ولما بُلّغ قائد الطائرة شركة الطيران المغربية بما حدث له مع السلطات الفرنسية أُعطيت التعليمات من الرباط إلى ملاحي الطائرة بعدم مغادرة بالما إلى إشعار آخر، لكن تعذّر عليهم تلقي الرسائل عن طريق المطار الذي يستخدم في اتصالاته خط (الرباط- مدينة الجزائر- باريس- مدريد- بالما) لأن السلطات الفرنسية احتجزت الرسائل لإنجاح عملية القرصنة الجوية.

وعند مغادرة بالما باتجاه تونس، طلبت السلطات العسكرية الفرنسية من قائد الطائرة المغربية تغيير وجهته باتجاه الجزائر، وفي محاولة لها للعودة إلى المملكة المغربية طبقا لتعليمات السلطات المغربية انطلقت باتجاهها طائرات فرنسية حربية التي كانت على أتّم الاستعداد لإطلاق النار إن هي حاولت الفرار. وهكذا تمّ تحويل الطائرة التي كانت تقل قادة الثورة نحو مدينة الجزائر بمطار دار البيضاء وسط حشد كبير من القوات العسكرية والأمنية.

  • ردود الفعل الداخلية والخارجية:


لقد أثار هذا الاختطاف الإرهابي موجة واسعة من الاستنكار والتنديد الشديدين على المستوى الداخلي والخارجي.

1– على المستوى الداخلي: رد الفعل الجزائري

جاء رد قيادة الثورة الجزائرية على عملية القرصنة التي استهدفت قادتها، من خلال البيان الذي أصدره عبان رمضان في اليوم التالي من حادثة الاختطاف ووُزّع في العاصمة الجزائرية أكّد فيه صمود الثورة قيادة وشعبا وقد جاء فيه:”إن اختطاف مسؤولين من جبهة التحرير الوطني الجزائرية ليس سوى انقلاب طارئ لن يغيّر شيئا من تصميم الثورة”.

ومن جهته أكّد بلاغ رسمي للمجلس الوطني للثورة الجزائرية :”بأن الدعاية الفرنسية تحاول أن توهم الرأي العام بأن الثورة الجزائرية قد فقدت الرأس المفكر بعد إلقاء القبض بتلك الصورة الشنيعة على الإخوان بن بلة، وخيضر، آيت أحمد، الأشرف وبوضياف. إن جهاز جبهة التحرير الوطني الذي يُذاع اليوم يبرهن على أن الفكرة  لا أساس لها. إن الذين يعرفون حركات المقاومة السرية يعلمون أن إلقاء القبض على قائد أو جمع من القادة لم يوقف في يوم من الأيام تلك الحركات. وهذه الحقيقة تتأكّد بالنسبة للثورة الجزائرية التي لا يوجد على رأسها قائد واحد ولكن مجلس كامل هو المجلس الوطني للثورة الجزائرية.

وفي بيان لها ندّدت جبهة التحرير الوطني بمساعي السلطات الاستعمارية لعرقلة مؤتمر تونس وأكّدت فيه خبث الحكام الفرنسيين وعدم رغبتهم في إيجاد حلّ للقضية الجزائرية تتفق ومطالب الشعب الجزائري المشروعة. ومما جاء فيه :”… بل إن هذا الانتصار الفرنسي ما هو إلا ثمرة لأخس وأحط الخيانات… فإخواننا المعتقلون قد وضعوا ثقتهم التامة في سلطان المغرب ولكن سلطان المغرب خدعته حكومة فرنسا… إن الاستخفاف الذي عاملت به فرنسا محمد الخامس وبورقيبة، والصورة التي جرحت بها كرامة الحكومتين المغربية والتونسية “صديقتي الأمس” لم يدعم نظرية جبهة التحرير الوطني في اعتقادها الراسخ بأن لا شيء مطلقا يرجى من فرنسا. فاللغة الوحيدة التي يفهمها الفرنسيون هي لغة الحرب…. إن عرقلة فرنسا لمؤتمر تونس لن تمنع تحقيق وحدة الشمال الافريقي، وأن تضامن الشعوب المغربية لا يكون إلا أكثر فعالية من أجل المصلحة العليا للمغرب العربي”.

2- على الصعيد المغاربي: المغرب – تونس- ليبيا

أثارت عملية اختطاف قادة الثورة واعتقالهم موجة استنكار العديد من الدول وفي مقدمتهم تونس والمغرب، إذ قرّرت الدولتان استدعاء سفيريهما في باريس احتجاجا على العملية النكراء. وبقيت القطيعة السياسية  بين المغرب وتونس من ناحية وباريس من ناحية أخرى قائمة، وبلغت في بعض الأحيان حد التوتر الخطير، وكان موقف المغرب إزاء باريس هو المطالبة بإرجاع ضيوفه الخمسة بدون قيد أو شرط، أو رفع القضية إلى محكمة لاهاي الدولية.

لقد اعتبر الملك “محمد الخامس” هذه الحادثة بمثابة طعنة أكثر خطورة بالنسبة لشرفه من حادثة تنحيته عن العرش، واعتداء يكتسي خطورة خاصة. ومن جهته اعتبرها الرئيس بورقيبة تطورا للأزمة زاد من ابتعاد شمال افريقيا عن الهدوء، وقفزها نحو خطورة أشد عنفا.

تظاهرت تونس باتخاذ إجراءات في مستوى الإهانة الفرنسية، فعقد بورقيبة ندوة صحفية حضرها عدد كبير من الشخصيات السياسية والصحفيين  الأجانب، وصرح خلالها أن عملية الاختطاف زادت في استفزاز شعوب شمال افريقيا، منتقدا السياسة الفرنسية قائلا: “إننا اعتبرنا أن الخديعة التي وقعت أمس كصفعة لأننا كنا واثقين تونسيين ومغاربة من أن فرنسا قبلت مبدأ التفاهم وكانت على علم بالمحادثات التي كان في الحسبان أن يحضرها القادة الجزائريون الذين ألقي عليهم القبض…” . وذكّر أن أهداف برنامج الندوة الأساسية قد تحقّقت، وأنه حصل الاتفاق على مجابهة الاستعمار الفرنسي واجتثاث مخلفاته في كامل البلدان المغاربية”. ورغم بشاعة الاختطاف، أكّد بورقيبة أن هذه العملية  أفادت وحدة المغرب العربي وستعود بالفائدة على القضية الجزائرية وستضطر السلطات الفرنسية إلى الجلوس للتفاوض مع القادة المختطفين مثلما فعلوا معه ومع السلطان محمد الخامس.

أما الرد الفعل الليبي، فقد جاء على لسان رئيس الحكومة الليبية  مصطفى بن حليم إذ قال: “إن عملية القرصنة كان وقعها كبيرا على ليبيا، لذلك فقد تمّ استدعاء السفير مباشرة ووجهت لحكومته اتهامات القرصنة، وانتهاك الحرمات، وارتكاب الجرائم…”. وإزاء الرد الفعل الشعبي القوي، استقدمت ليبيا سفيرها من باريس، وقدمت وزارة الخارجية احتجاجا شديد اللهجة لفرنسا، وعبّر رئيس الحكومة الليبية  في المذكرتين الموجهتين للسفيرين الإيطالي والأمريكي عن احتجاج ليبيا الشديد على ما قامت به الحكومة الفرنسية، وأكّد “أن ليبيا حريصة على تسوية سلمية للمشاكل الجزائرية، وذلك بمنح أهلها حقهم في الحرية والاستقلال”.      

وبذلك تحوّلت قضية اختطاف القادة إلى قضية دولية، حملت طرفي النزاع على الالتجاء إلى لجنة تحكيم مقرها في جنيف، وكانت مكوّنة من 5 شخصيات منها نائب عن المغرب ونائب عن فرنسا وثلاثة أعضاء محايدين يمثلون الباكستان وإيطاليا وبلجيكا. وترأّس اللجنة الأستاذ البلجيكي “فيشر” أحد الأساتذة البارزين في القانون الدولي ، لكن هذه اللجنة تعثرت شهورا بسبب العراقيل والمشاكل القانونية التي أثارها العضو الفرنسي.

لقد أثبتت هذه العملية للعالم، بأن السلطات الاستعمارية لم تكن راغبة في تسوية القضية الجزائرية عن طريق التفاوض، بل لجأت إلى هذا الأسلوب الإرهابي من أجل عرقلة السلام، فتشعّبت القضية في الميدان القانوني خاصة بعد موقف باريس الذي اعتبر اختطاف قادة الثورة “مواطنين فرنسيين” وهم في قبضة سلطة فرنسية ولا يوجد قانون في العالم يمكن أن يُلزم  هذه السلطة على تسليم مواطنيها إلى سلطة أجنبية.

  • ما بعد الاختطاف:


لم تهمل قيادة الثورة الجزائرية مناضليها المعتقلين الذين تمّ تحويلهم مباشرة بعد الاختطاف إلى فرنسا وحبستهم هناك في عدة سجون منها “فرين” Fresnes  ، “توركون” Turquin ، “اكس” Aix . وأمام هذا الإجراء التعسفي بُذلت الجهود لإرغام الحكومة الفرنسية على إطلاق سراحهم لكن بدون جدوى.

ظلت قيادة الثورة الجزائرية تطالب بإطلاق سراح قياديها وزراءها المعتقلين بدون قيد ولا شرط، مؤكدة من جهتها أهمية مساهمتهم في قضية التفاوض مع المحتل. وفي هذا الصدد أدلى محمد يزيد وزير الأخبار في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بالتصريح التالي” … إن الحديث عن المفاوضات معناه أن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية هي المفاوض الكفء باسم الشعب الجزائري، والحكومة الجزائرية تتألف من 13 عضوا، فالوزراء المعتقلون يملكون أهلية التفاوض مثلما يملكها الوزراء الآخرون في الحكومة الجزائرية.

ومن جهتهم واصل قادة الثورة المختطفون نضالهم داخل السجون الفرنسية تعبيرا عن رفضهم المطلق للتجاوزات المرتكبة في حقهم، حيث أعلنوا إضرابا عن الطعام والمطالبة بحق التمتّع بنظام المساجين السياسيين. وأمام تجاهل السلطات الاستعمارية لمطالب المعتقلين الذين تدهورت صحتهم، وانتشار أنباء الإضراب خارج السجن، تم تحويل المناضلين إلى خامس معتقل في فرنسا هو سجن “أونوا” AULNOY، وظلوا معتقلين هناك  إلى غاية إطلاق سراحهم يوم 19 مارس 1962.  ولأول مرة وبعد ست سنوات تقابل قادة الثورة مع بقية أعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بالمغرب برئاسة السيد “بن يوسف بن خدة”.